تحقيق الصحافية انطوانيت شليطا
بقاعكفرا القرية الرابضة في الجرد العالي، تغفو على أعلى تلة في لبنان والشرق الاوسط، حيث تلامس خدودها وجه السماء. قرية متواضعة تسمع على دروبها ترددات التراتيل والصلاة وتشم عبق بخور وادي قنوبين... تمطر بنعم قديسها شربل مخلوف شفاءات واعاجيب تجعل منها بحق أعجوبة القرن والقرية النموذجية في العالم.
تتربع على كتف تلة عالية ترفض حياة المدينة، لان جوها الصافي يشعرك بالأمان والهدوء والطمأنينة، وتشكل الزيارة اليها فرصة للتمتع بأجمل ما صنعت يد الخالق، فالجمال الطبيعي فيها يحمل سحرا رهيبا، لان أيادي التشويه والاساءة لم تجرؤ على لمسها. ويحس الزائز ان لمسات الخالق ما زالت مطبوعة فيها. كما يخيل اليه، انه معلق بين السماء والارض، حيث ترتفع حوله جبال شامخة وتلامس خدوده نسمات شمالية باردة معطرة بانفاس قاديشا وبخور الوادي المقدس.
أبناؤها، وعلى الرغم من تطورهم وتقدمهم علميا ومهنيا وثقافيا، إلا انهم ما زالوا أبناء الجرد الذي ما زال متمسكا بأصالته اللبنانية، مع الاشارة إلى أن نسبة كبيرة من ابنائها رجال اعمال، بالاضافة الى تخصص جيل الشباب في مجالات عدة اهمها الطب والصيدلة، والقضاء، والهندسة الزراعية وغيرها. كما اشتهر ابناؤها بمطاعمهم المعروفة والمنتشرة في اكثر المناطق اللبنانية والتي تعدى وجودها لبنان الى رومانيا.
يتميز سكانها بأنهم يعيشون وعدهم مع المسيح من خلال ممارستهم شعائرهم الدينية اليومية، يشتهرون بالضيافة والكرم وحسن الاستقبال، ويتمتعون بالصلابة والشجاعة هذه الصفات التي تمتد جذورها في الارض والتاريخ. يعرفون بطيبة قلبهم وصدقهم وعفويتهم وايمانهم العميق. اما لهجتهم فهي شمالية بامتياز، يعود اصلها الى اللغة السريانية التي كانت سائدة قديما في هذه المنطقة المارونية.
قرية، يشعر زائرها أنه ابن الطبيعة، تحبه ويحبها، ويشعر انه بحاجة للعيش ببساطة دون تكلف، فهو يشرب من جرن مياه العين المنتشرة على طرقها، ويتزود من خيراتها باصنافها المتنوعة والجيدة نسبة الى تربتها الغنية وكأنه يحتفظ ببركة من هذه القرية الابقة بالقداسة.
واللافت فيها أنها ما زالت تحافظ على تراثها واصالتها، فالبيوت فيها قديمة يحرص ابناؤها على قدمها وتواضعها تماما مثلما كانت أيام القديس، ليستشفوا من خلالها الروحانية التي عاش فيها مدة 23 عاما قبل مغادرتها ودخوله الدير.
كما أنها لا تزال تحافظ على عاداتها وتقاليدها الاصيلة والفولكور يزين سهراتها واعيادها ومناسباتها، فتقيم خلال اسبوع عيد مار شربل معرضا للمونة البلدية من انتاج سيداتها، وسط الشارع القديم المؤدي الى منزل القديس، تعرض خلاله كل الادوات والاواني التي كانت تستعمل قديما والتي تعيد بنا الذاكرة الى ايام الماضي، وتقيم العرس القروي حسب الاصول التي كانت متبعة في القرن التاسع عشر.
الأرض الخصبة
بكلمة، قرية نائية ولكن مأهولة بسكان يعتبرون أنفسهم أنسباء قديس ذاع صيته في أرجاء المعمورة... يبلغ ارتفاعها 1800 متر عن سطح البحر، ارتفاع أعلى قمة في لبنان وهي القرنة السوداء. ويعيد المؤرخ فؤاد فرام البستاني تاريخها إلى القرن العاشر، وحسب دراسة تاريخية اقامتها "ذاكرة البيوت الاثرية الاوروبية في العالم" أن تاريخها يعود الى ألفي عام. إنها إحدى قرى قضاء بشري، جارة ارز الرب المذكور مرارا في الكتاب المقدس. تشرف من موقعها على بلدة المقدمين بشري، وتطل على وادي قنوبين الذي احتضن طوال اجيال 24 بطريركا مارونيا من 1440 حتى 1823، بالاضافة الى الحبساء والرهبان والزهاد والقديسين.
تسميتها سريانية مركبة من "بقاع" أي الارض، و"كفرا" أي الخصبة، بالتالي إنها "الارض الخصبة".
تصل اليها عبر طرق عدة: بيروت - شكا - اميون - حدث الجبة - بقاعكفرا. طرابلس - الكورة - حدث الجبة - بقاعكفرا. اهدن - بشري - بقاعكفرا. دير الاحمر - عيناتا - الارز - بشري - بقاعكفرا.
عدد سكانها تجاوز ال 30 الف نسمة ثلثهم في لبنان، والثلثان في ديار الاغتراب، خصوصا في اميركا، اوستراليا، والمكسيك حيث هناك شارع يعرف باسم بقاعكفرا.
عائلاتها: مخلوف، شليطا، لحود، نكد، ايليا، فخر، مارون، عيسى، مبارك، سركيس، موسى، ليشع، داود، الخوري، بركات، بشاره، نعمة، كرم، قزحيا، زعرور، يمين، بولس، طنوس، طراد، بطحاني، والياس.
مناخها
يتميز مناخها بقساوته شتاء حيث تغمرها الثلوج معظم فصول السنة، اما مناخها صيفا فهو ناشف وصحي، يقصدها اهلها والزوار لقضاء فصل الصيف او خلال عطلة الاسبوع للتزود بالراحة والهدوء وخصوصا المرضى والعجزة منهم ليستعيدوا عافيتهم من جوها الهادىء والنقي.
وهي تتمتع ببيئة طبيعية نادرة لعذوبة مياهها الصحية، وتنوعها النباتي وغناها البيئي في مرتفعاتها ومغاورها الطبيعية القائمة حولها. تعمل البلدية على حفظ هذه الخصائص من خلال حمايتها وإبقائها على طبيعتها، وتعزيز الثروة النباتية والحرجية بزيادة مساحات الزرع والتشجير.
وتعد البلدية دراسات علمية متخصصة تقضي بتوفير مختلف شروط الافادة من هذه الخصائص، وتحويل مجمل هذه الامكنة مواقع سياحية بكامل مقتضياتها، بالاضافة الى تطوير انتاج بقاعكفرا الزراعي المتميز بجودته الفريدة.
منتوجاتها
تنتج أراضي بقاعكفرا كل أنواع الفاكهة والخضار، وأهم موسم فيها هو التفاح الذي يعتبر بنوعيه الاحمر والاصفر الاجود في لبنان، وتتهافت عليه الدول العربية لشراء محصوله نظرا لجودته وطعمه اللذيذ، ويأتي بعده موسم الاجاص. كما كانت تعرف بقاعكفرا قديما بزراعة البطاطا التي تراجعت لأسباب عدة.
قرية نموذجية
قرية أثرية، تشتهر بطبيعتها الخلابة وبيوتها التاريخية التي يعود بناؤها إلى القرن الثامن عشر وتحمل غنى كبيرا من تراث الماضي ونقائه المهدد بالضياع، ولكن هذا التراث، ولكي يبقى منارة وينبوعا روحيا، كان لا بد من منقذ لترميم الآثار واعادة طابعها القديم والحفاظ عليه.
عادت الحياة إليها من جديد، بعد أن كانت شبه مهملة محليا إلا أنها حظيت باهتمام متوسطي وأوروبي أعاد اليها الحياة. وهكذا بدأت قرية القديس تنفض عنها غبار الأعوام الفائتة وتخرج عن صمتها لتقول للعالم إنها ستكون محط انظار الملايين.
فنظرا لما تتميز به من خصائص طبيعية وتراثية فريدة، أبرزها طابع البيوت الحجرية القديمة، تم تصنيفها من قبل السوق الاوروبية المشتركة كرابع بلدة نموذجية عالمية عام 1992، فأصبحت بيوتها في ذاكرة البيوت الاثرية في العالم، بناء على تقرير ممثلي اللجنة الاوروبية لمنظمة "ذاكرة البيوت الاثرية" MAISONS des MEMOIRE وذلك بعد اليسندريا في ايطاليا، وبالمجادو مابوركا في اسبانيا، وقفصة في تونس.
وقد تقرر ترميم حوالى مئة منزل فيها يعود بناؤها الى بداية القرن الحادي عشر، واعادة ترميم الآثار الموجودة، واعادة طابعها القديم والحفاظ عليه. لقد اصبح لبقاعكفرا خرائط مساحة وطوبوغراف كاملة ومدمغة، وقد جرى مسح شامل لكل البيوت التي هي بحاجة الى ترميم، والهدف من هذا المشروع تحويل القرية متحفا عالميا، والدراسات اعدت لابراز طابعها التراثي في بيوتها وطرقها الداخلية ومداخلها.
وتتابع بلدية بقاعكفرا بشخص رئيسها ايلي مخلوف العمل على انجاز هذا المشروع الذي يشكل مثلا نموذجيا للسياحتيين البيئية والدينية. يذكر ان خبراء المؤسسة الاوروبية المذكورة قد اكتشفوا فيها آثارا صليبية ورومانية مغمورة. كما اكتشفت في بحيرة القرية الزراعية بقايا اخشاب ارز مفحمة تعود الى حوالى 2500 عام.
معالمها السياحية
تشكل السياحة الدينية فيها الركيزة الاساسية في مجمل الحركة السياحية من هنا الاشارة اولا الى المواقع الدينية:
- كنيسة عماد مار شربل التي تقع تحت كنيسة السيدة الحالية على عتبة بابها صليب يعود شكله الى ما بين القرنين السابع والثالث عشر، يربطها ببيوت القرية دهليز او نفق تحت الارض فيها جرن عماد مار شربل وايقونة قديمة للعذراء مريم.
- كنيسة السيدة الرعائية التي بنيت عام 1925 داخلها مزخرف يوجد فيها التحف التالية: تمثال المصلوب، تمثال السيدة العذراء، وصورة زيتية للسيدة ايضا، اضافة الى وثيقة الزمن الطقسي السرياني طبعة روما 1666 والشحيمة عام 1652. - دير مار حوشب الذي شيد على اسم القديس اوسابيوس الشهيد الذي عاش في منتصف القرن الرابع. اقيمت الى جانبه مدرسة تعلم فيها القديس شربل علومه الابتدائية على يد الخوري يوسف مخلوف القديم. لا يوجد للقديس المذكور في كل لبنان دير الا في بقاعكفرا ومزار في بلدة لحفد - قضاء جبيل.
- بيت القديس شربل وهو من اوائل بيوت بقاعكفرا العائدة الى القرن العاشر. ولم تكن البلدة في ذلك التاريخ تضم سواه بالاضافة إلى عدد قليل من البيوت الحجرية القديمة. ولد فيه القديس في الثامن من ايار سنة 1828 . منذ العام 1950 اصبح المنزل في عهدة الرهبانية اللبنانية المارونية التي انتسب اليها مار شربل.
في البيت القديم صورة لسيرة حياة القديس، ومنحوتات تمثل جميع افراد عائلته. كما يضم الدير الجدير الملاصق لبيت القديس الاثري معرضا للايقونات واللوازم الدينية.
وفي البيت القديم والدير الجديد كنيستان للصلاة والتأمل والاحتفالات الدينية. كما توجد فيهما اغراض كثيرة ولوازم طبية مثل العكازات والنظارات وغيرها عائدة للمرضى الذين تماثلوا للشفاء بشفاعته.
وامام منزل القديس وفي ساحة الدير يرتفع تمثال كبير لشربل مصنوع من الحجر الصخري الابيض نحته الفنان جورج عون.
- مغارة القديس وقد امضى فيها عددا كبيرا من ايامه مصليا ومتأملا وساعيا الى وجه الله. تقع المغارة في محلة عين الحور في الجانب الشمالي من بقاعكفرا، اعتنى بها المونسنيور انطوان مخلوف حتى عام 1950. ثم تولت ادارتها والاهتمام بها جمعية الراهبات اللبنانيات، فيها معرض ديني ونبع ماء تفجر بفعل عجائب القديس يشرب منه المؤمنون ويأخذوا منه بركة سعيا للشفاء. وقد تحولت هذه المغارة مزارا مقصودا من المؤمنين.
وتنتج فيها الراهبات اللبنانيات انواعا عدة من الاشغال الحرفية ذات الطابع الديني. وقد حددت في المغارة المواقع التي كان يجلس فيها القديس شربل، وابرزت الاغراض واللوازم الطبية التي تركها المرضى بعد شفائهم .
اعيادها
تحولت اعياد بقاعكفرا محطات سنوية تستقطب اعدادا كثيفة من المؤمنين اللبنانيين والاجانب بمشاركة السلطات الروحية والزمنية، ولا تقتصر مناسبات الاعياد على ايامها المحددة رسميا فقط بل تسبقها بايام وتتجاوزها بايام.
وتشهد تلك الايام امسيات صلوات وتأمل وندوات وشهادات حياة يشارك فيها المؤمنون بكثافة. وتتحول القرية منارة للثقافة الدينية وللنشاط الروحي، الذي يتعطش اليه انسان العصر وابرز الاعياد المحطات هي:
- عيد ولادة القديس شربل يحتفل به في الثامن من ايار من كل سنة، وقد اقيمت له لجنة عالمية تحمل اسم اللجنة العالمية لاحتفالات القديس شربل، وتضم نخبة من المؤمنين اللبنانيين والاجانب.
- عيد سيامة القديس أي سنة 1965 حيث اقرت الكنيسة المارونية ذكرى سيامته كاهنا عيدا يحتفل به في الاحد الثالث من تموز من كل عام.
- ومن المناسبات الدينية البارزة ايضا عيد انتقال السيدة العذراء في 15 آب من كل عام واحتفال عيد مار حوشب في 5 تشرين الاول، وعيد مار سابا في 5 كانون الاول. هذه المناسبات يحتفل بها ابناء البلدة واصدقاؤهم اينما وجدوا في لبنان وفي بلاد الاغتراب.
بلديتها
ونظرا للموقع المهم للبلدة فقد عمد رئيس البلدية ايلي مخلوف الذي انتخب لثلاثة دورات متتالية، وقد استحوذ على احترام وتقدير اهالي بلدته لتضحياته في سبيل الشأن العام، انتخبته بلديات قضاء بشري رئيسا للاتحاد تكريما لجهوده وتضحياته في سبيل الشأن العام في المنطقة ككل. وكانت من اولوياته في بلدته الام الاهتمام بجيل الشباب حيث يعول عليهم في المستقبل، فقد عمد الى تأمين فرص عمل لهم ليثبتوا حضورهم في بلدتهم التي تعتبر مزارا عالميا.
واهتم بموضوع تصريف انتاج المزارعين الذي يؤمن لقمة العيش للذين يقطنون صيفا شتاء في البلدة. وشكل فريق عمل من شبان وشابات مهمتهم ملاقاة الزائر ومرافقته الى اماكن العبادة. وقد اصدر سنة 2001 دليلا سياحيا بعنوان :"بقاعكفرا بلدة التراث والقداسة" بثلاث لغات، العربية والفرنسية والانكليزية، يوزع مجانا على الزائرين. وعمل على تحسين منظر البلدة من الناحية الجغرافية، فأعاد ترميم الحيطان على الطرقات العامة، وزينها بالحجر الصخري القديم، ورصف طرقاتها ايضا بالبلاط الصخري الجميل. واهتم بالبنى التحتية والاضاءة والاشارات التي تدل السائح الى اماكن العبادة، وشق على نفقته الخاصة شارعا عريضا يربط بقاعكفرا من كل جوانبها، تسهيلا لحركة المرور امام الزوار خصوصا في فترات الاعياد ونهاية الاسبوع. وساهم بالتعاون مع نائبي المنطقة ستريدا جعجع وايلي كيروز في تدشين بركة مياه في جرد بقاعكفرا لتسهيل ري المزروعات بالتعاون مع الصندوق الكويتي.
بقاعكفرا والهجرة
ولا بد، قبل أن نختم، من الاشارة الى موضوع هجرة أبناء بقاعكفرا والتي بدأت منذ القدم، وأول مغترب من المنطقة الى فنزويلا هو دافيد مخلوف الذي اشتهر بتجارته وحسن معاملته للبنانيين هناك.
وتمكن احد ابناء بقاعكفرا المغترب غبريالو شليطا الى الترشيح الى الانتخابات النيابية في سان باولو في البرازيل، وقد زار لبنان منذ حوالى 4 اعوام، وتعرف الى مسقط رأسه، وكان برفقة وفد اغترابي من اصل لبناني برئاسة ريكاردو عازار، حيث وقعوا اتفاقيات تعاون واستثمار مع المسؤولين اللبنانيين.
وتولى احد ابناء البلدة ويدعى البيرتو كرم منصب قنصل لبنان في كوستاريكا الذي يحرص اضافة الى مهامه الرسمية الى تعليم اللغة العربية الى ابناء الجالية، ويقيم محاضرات عن لبنان لتعريف العالم الى بلده الام - وطن الارز.
أيضا وأيضا...توصلت ماري جوزف طراد الى مركز دبلوماسي مرقوق وهو قنصل لبنان في المكسيك، هي التي ولدت في هذا البلد واحتفظت بلغتها وترجمة محبتها لقريتها ولبنان عبر العمل الدبلوماسي.
اما اوستراليا فتضم اكبر جالية لبنانية من بقاعكفرا، حيث عدد الموجودين فيها يفوق عدد المقيمين في لبنان وخصوصا في العاصمة سيدني، وهم يحملون عاداتهم وتقاليدهم اللبنانية ويعرفون عن لبنان اينما حلوا.
الكلام عن بقاعكفرا لا ينتهي والغوص فيها يضيع، لذلك حاولنا القاء الضوء على مساحة مهمة وكبيرة وعزيزة على قلوبنا، وتبقى زيارتها الشاهد الوحيد على ما تحمله من كنوز. فقصتها قصة الذين ينظرون الى فوق...